لا يزال السودان يواجه واحدة من أشدّ وأعقد أزمات الصحة العامة في تاريخه الحديث. أكثر من عامين ونصف من الصراع أنهكت البنية التحتية، وشرّدت الملايين، وقوّضت الخدمات الصحية الأساسية.

وفي محاولة لإلقاء الضوء على تطوّر هذه الأزمة والتصعيد الأخير في أعمال العنف، ولبحث المسارات العملية نحو الإغاثة والتعافي، نظّمت امفنت الجلسة التاسعة والأربعين من سلسلة ندواتها الالكترونية WEBi تحت عنوان: "حالة طوارئ الصحة العامة والاحتياجات الإنسانية في السودان: من النجاة إلى التعافي"، وذلك يوم 25 نوفمبر 2025.

جمعت الندوة خبراء من السودان، ومن مؤسسات إنسانية دولية، ومن الأوساط الأكاديمية، ومن أبناء السودان في المهجر، لبحث الاحتياجات الصحية والإنسانية العاجلة، وتقييم قدرة النظام الصحي على العمل وسط الصراع، ووضع أولويات واضحة للتعافي على المديين القصير والطويل.

الكلمة الافتتاحية

بإدارة الدكتور هيثم بشير، مدير مركز إدارة طوارئ الصحة العامة (PHEMC) في امفنت، انطلقت الجلسة باستعراض حجم الكارثة التي يمر بها السودان. وقد شدّد الدكتور بشير على أهمية أن يكون الصوت السوداني في صدارة تحديد الأولويات ورسم مسار الإغاثة وإعادة بناء النظام الصحي.

الوضع الصحي في السودان

قدّم الدكتور منتصر محمد عثمان، المدير العام للطوارئ الصحية ومكافحة الأوبئة في وزارة الصحة الاتحادية ومدير برنامج تدريب الوبائيات الميدانية في السودان (FETP)، عرضًا معمّقا تناول فيه ملامح الأزمة وتأثيرها على النظام الصحي في البلاد.

وأوضح أنه منذ 15 نيسان/أبريل 2023، تعرّضت البنية التحتية الحيوية للتدمير أو النهب، ما أدى إلى تداعيات واسعة، إذ تضرّرت 122 منشأة صحية، ونزح 70% من الكوادر الصحية، بالإضافة إلى أكثر من 12 مليون نازح داخلي بحاجة إلى رعاية عاجلة.

كما استعرض رؤية استراتيجية تمتد لعشر سنوات (2025–2035)، تقوم على مراحل متتابعة تشمل الاستجابة، ثم إعادة الإعمار، وصولًا إلى التنمية طويلة المدى. وقدّم من خلال عرضه صورة واضحة لخطورة الوضع، إلى جانب إطار عملي لإعادة بناء النظام الصحي في السودان وتعزيز قدرته على الصمود.

حلقة النقاش: الاحتياجات الإنسانية، عوائق الحوكمة، ومسارات التعافي

أدار الدكتور بشير حلقة نقاش ضمّت نخبة من الخبراء، هم:

• د. أنمار حُميدة، المدير التنفيذي لرابطة الأطباء السودانيين الأمريكية (SAPA)

• د. ميسون البخاري، قيادية صحية بارزة ومستشارة أولى لإدارة المخاطر البرامجية في الصندوق العالمي

• د. نعيمة القصير، خبيرة في الصحة العالمية والتنمية المستدامة، ومسؤولة ودبلوماسية سابقة في منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة في مملكة البحرين
• الدكتور سليم محمد نور، اختصاصي طب صحة عامة وخبير مستقل في الاستجابة للأوبئة وتعزيز النظم الصحية

المنظور الإنساني من الميدان

من موقعه ممثلًا لإحدى أكثر الجهات فاعلية على أرض الميدان في السودان، رابطة الأطباء السودانيين الأمريكية (SAPA)، استعرض الدكتور حميدة الثقل الهائل الذي تتحمّله المجتمعات بفعل الأزمة، من سوء تغذية حاد، وجوع، وتفشّي أمراض، وإصابات وصدمات، وتحديات في صحة الأم، وأمراض غير سارية، ومواقع نزوح مكتظّة لا تستوفي الحد الأدنى من الرعاية.

وشدّد على أن المجتمعات المحلية هي من تقود جانبًا كبيرًا من الاستجابة، بعد أن انهارت المنظومات الوطنية في مناطق واسعة. ورغم محدودية الموارد، تواصل رابطة الأطباء السودانيين الأمريكية (SAPA) وشركاؤها المحليون دعم خدمات الرعاية الصحية الأولية، وتنسيق جهودهم بشكل وثيق مع الوكالات الإنسانية ووزارة الصحة لضمان استمرار الخدمات الحيوية.

الحوكمة، القيادة المجتمعية، وأولويات التعافي

أوضحت الدكتورة نعيمة القصير أن أي مسار للتعافي لا يمكن أن يتحقق دون ثقة وسلام وقيادة مجتمعية فاعلة. واستنادًا إلى تجارب من رواندا وأفغانستان والعراق وجنوب السودان، شدّدت د. القصير على أهمية شبكات الصحة المجتمعية، والمبادرات التي تقودها النساء، ونُهج الأداء المبني على النتائج، والانخراط الفعّال على مستوى الأقاليم والمناطق.

وبيّنت أن تشتّت السلطات، وضعف قنوات الاتصال، ومحدودية القدرات المحلية تمثل أبرز العوائق المرتبطة بالحوكمة. ودعت إلى تعزيز التنسيق الشامل، وتمكين الشباب، والتحوّل من تمويل تُحدده الجهات المانحة إلى تعافٍ تقوده الإرادة الوطنية. وأكدت أن المجتمعات تظل "العين على الأرض" والعنصر الأهم في استعادة الثقة وضمان استمرارية الخدمات.

واختتمت مداخلتها بالتأكيد على أن السلام هو الركيزة الأولى التي يقوم عليها أي تعافٍ حقيقي وتنمية مستدامة.

تعزيز صمود النظام الصحي

تطرّقت الدكتورة ميسون البخاري إلى التأثيرات المتراكمة للحرب على نظام صحي كان هشًّا أصلًا، مشيرة إلى أن مؤشر التغطية الصحية الشاملة في السودان لم يتجاوز 44 عام 2017، أي قبل اندلاع النزاع بسنوات. وعرّجت على الآثار المباشرة للحرب، من اعتداءات على المرافق الصحية وإصابات جسيمة، والآثار غير المباشرة مثل سوء التغذية، وانهيار منظومات المياه، وتفشّي الأمراض، وتعطّل خدمات الأمراض المزمنة، وارتفاع الحالات المرتبطة بالصحة النفسية، إضافة إلى تلوث البيئة.

واستندت في مداخلتها إلى مضامين ورقتها المنشورة حديثًا بعنوان: "Measuring What Matters: Key Indicators for Performance and Resilience in Fragile, Low-Income Contexts" والتي تبحث في كيفية قياس الصمود وتعزيزه في البيئات الهشّة المعرضة للصدمات المتكررة.

وخلال الجلسة، عرضت أربع قدرات أساسية يجب أن تتوافر لبناء نظام صحي قادر على الصمود:

• مركز قيادة يحظى بالثقة
• جاهزية لمواجهة الصدمات المتوقعة
• تنسيق قوي بين الجهات الصحية العاملة
• حوكمة وسياسات يتم تعزيزها بثقة المجتمع

الحوكمة والوصول عبر الحدود

شدّد الدكتور نور على ضرورة توظيف نهج الترابط الإنساني–التنموي–السلمي (HDPx Nexus) لتحويل التوصيات إلى عمل منسّق وفعّال. ومع وجود ملايين النازحين داخل السودان وخارجه، ولفت إلى الحاجة الماسّة إلى:

• توسيع نماذج تقديم الخدمات الصحية المجتمعية في مناطق النزوح وعلى طول الحدود
• تنفيذ تدابير عاجلة للصحة البيئية
• تعزيز مسارات الإحالة عبر الحدود
• تقوية الآليات القائمة مثل مكتب صحة المهاجرين الاتحادي
• الاستثمار في تعافي النظام الصحي، والرصد الوبائي، وبناء قدرات القوى العاملة

كما أكّد على أهمية بناء السلام عبر الصحة، داعيًا إلى تمويل مرن، وتعاون إقليمي أوسع، واتفاقيات رسمية عابرة للحدود تكفل للاجئين السودانيين وصولًا منصفًا إلى الخدمات الصحية أينما كانوا.

الختام والتأملات النهائية

اختُتمت النقاشات بجملة من الرؤى المفصلية حول كيفية استجابة السودان لاحتياجاته العاجلة، بالتوازي مع التخطيط لتعافٍ طويل الأمد، ومن أبرز ما تم التأكيد عليه ما يلي:

• اللامركزية خيار حاسم لضمان استمرار الخدمات الأساسية في الولايات المستقرة وتلك المتأثرة بالصراع على حدّ سواء.
• القيادة المجتمعية عنصر جوهري للوصول إلى الفئات صعبة الوصول، وضمان أن تعكس الاستجابة أولويات المجتمعات.
• ضرورة وجود خطة وطنية منسّقة تُعزَّز فيها المساءلة ويُضمن لها تمويل مستدام قادر على دعم صمود النظام الصحي.
• الأولوية للإنصاف واعتماد نُهج شاملة تتمحور حول الناس لإعادة بناء الثقة واستعادة الخدمات الحيوية.
• السلام والثقة هما الأساس الذي يقوم عليه أي تعافٍ صحي وتنمية مستدامة.

وفي كلمته الختامية، جدّد الدكتور مهند النسور، المدير التنفيذي لامفنت، التزام الشبكة بدعم السودان عبر الانخراط الميداني، والمساندة الفنية، وبناء القدرات، والمناصرة. كما شدّد على الحاجة إلى تعزيز المسؤولية الدولية وتكامل الجهود لمواكبة حجم الأزمة التي يمر بها السودان.

شهدت الندوة حضورًا تجاوز 250 مشاركًا، واتسمت بنقاش تفاعلي واسع، حيث عكست الأسئلة المطروحة عمق الاهتمام الحقيقي لدى المجتمع ورغبته في الوصول إلى حلول عملية لأزمة السودان الصحية المستمرة.

لمشاهدة تسجيل الندوة اضغط هنا. 

للمزيد حول سلسلة ندوات امفنت الالكترونية اضغط هنا.